عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 Jun 2010, 03:14 PM
أبو تميم يوسف الخميسي أبو تميم يوسف الخميسي غير متواجد حالياً
مـشـرف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
الدولة: دولــة قـطـر
المشاركات: 1,623
إرسال رسالة عبر MSN إلى أبو تميم يوسف الخميسي إرسال رسالة عبر Skype إلى أبو تميم يوسف الخميسي
افتراضي

وأما المذاهب الكلامية فلم يكن أثرها بالقليل في تفرّق المسلمين وتمزق شملهم ولكنها لما كان موضوعها البحث في وجود الله واثبات صفاته وما يجب له من كمال وما يستحيل عليه من نقص ـ كل ذلك من طريق العقل ـ كانت دائرتها محدودة وكان التعمق فيها من شان الخواص ؛ وقعد بالعامة عن الدخول في معتركها إحساسها بالتقصير في أدواته من جدل وعقليات يحتاج إليها في مقامات المناظرة والحجاج. فليس علم الكلام كعلم التصوف مطية ذلولاً يندفع لركوبها العاجز والحازم. فالتصوف شيء غامض يسعى إليه بوسائل غامضة ؛ ويسهل على كل واحد ادعائه والتلبيس به،فان خاف مدعيه الفضيحة لم يعدم سلاحاً من الجمجمة والرمز وتسمية الأشياء بغير أسمائها، ثم الفزع إلى لزوم السمت والتدرع بالصمت والإعراض عن الخلق والانقطاع والهروب منهم مادام هذا كله معدوداً في التصوف وداخلاً في حدوده. ولا كذلك علم الكلام الذي يفتقر إلى عقل نير وقريحة وقادة وذكاء نافذ ويحتاج منتحله إلى براعة ولسن ومران على المنطق ومقدماته ونتائجه وأقيسته وأشكاله. ولم كل هذه العدد ؟ كل هذه العدد للمناظرات وما تستلزمه من إيراد ودفع وإفحام وإلزام. وأين العامة من هذا كله ؟ لذلك لم يكن لها من حظ هذا العلم إلا معرفة أسماء بعض الفرق والانتصار لها انتصار تقليدياً.
ولذلك كانت آثار التفريق الناشئة عن هذه المذاهب الكلامية قاصرة على طبقات مخصوصة ولم تتغلغل في العامة كما تغلغلت آثار التصوف.
وقد انقرضت تلك الفرق وانقرض بانقراضها سبب جوهري من أسباب التفرق بل مات بموتها شاغل طالما شغل طائفة من خيرة علماء المسلمين ببعضهم وجعل بأسهم بينهم شديداً وألهاهم بما يضر عما ينفع.
تلاشت تلك الفرق ولم تبق إلا أخبار معاركها الجدلية في كتب التاريخ، وإلا آراؤها المدونة في كتبها فتنة للضعفاء وتبصرة للحصفاء، ولم يبق من تلك الأسماء التي كونت قاموساً في الأنساب إلا اسمان يدوران في أفواه العامة وأشباه العامة ويستعملونهما في أغراض عامية وهما :" أهل السنة والمعتزلة ".
ومن المحزن أن دراسة علوم التوحيد حتى في كلياتنا (الراقية) كالأزهر والزيتونة لا تزال جارية على تلك الطرائق وفي تلك الكتب ولا تزال تقرر فيها تلك الآراء ولا تزال تذكر فيها أسماء تلك الفرق التي لم يبق لها وجود، ويستعرض سيدنا المدرس تلك الآراء ثم يدحضها ويقيمها ثم ينقضها، وتقتطع أوقات الطلبة المساكين في ذلك..ويا ضيعة الأعمار.
أما الشبهات التي يوردها كل يوم ملاحدة العصر ومبشروا المسيحية على الإسلام، ويفتنون بها العلماء فضلاً عن العوام فإن كلياتنا (العلمية الدينية) ومدرسيها لا يعيرونها أدنى اهتمام، ولايعمرون بها وقت الطلبة...فياللفضيحة...
وإذا نحن وازنا بين ما أجداه علينا علم الكلام وبين ما خسرناه بسببه وجدنا الخسارة تربو على الربح ؛ فتوحيد الله مقرر في القرآن بأجلى بيان وأكمل برهان، وصفاته لا يطمع طامع أن يأتي في إثباتها بأكمل مما أتى به القرآن وطريقة القرآن في التنزيه أقوم طريقة وقد جرى عليها الصحابة فكانوا أكمل الناس توحيداً مع انهم لا يعرفون الجوهر والعرض وهل يبقى زمانين ؟ ولا الكم ولا الكيف بمعانيها الفلسفية الدقيقة. وعلى هذا فما معنى إضاعة الوقت وإعنات النفس في معرفة هذا العلم المسمى بعلم الكلام ؟
ولو كان هذا العلم المستحدث ذا قواعد طبيعية لا تنقض كقواعد الحساب أو الهندسة مثلاً لخف ما يلقى الناس في تعلمه من عناء ولكننا رأينا تلك القواعد تتهاوى في المناظرات القولية أو القلمية كفقاقيع الماء فلا يكاد يبني الباني حتى ينبري له هادم ينقض ما بنى ويتبر ما علا.
فواأسفاه على تلك الحملات العنيفة التي كانت جهاداً ولكن في غير عدو، ووالهفاه على ذلك النقع المثار وقد انجلى عن غير فتح ولا غنيمة، وواحسرتاه على ذلك الذكاء الذي كانت تكاد تشف له حجب الغيب ؛ ذكاء أبي بكر الباقلاني، وفخر الدين الرازي، وأبي الهذيل، وابن المعلم ؛ وقد ضاع فيما لا تعود على الإسلام منه عائدة، ولا تنحبر له منه فائدة.
وإنك لتطالع تفسير الرازي مثلا فتتلمح من جملته ذكاء يشع وقريحة تتقد وألمعية تكاد تنتزع منك بنات صدرك فتظن أن سيكشف لك عن الجهات المتصلة بنفسك من القرآن ويجلي لك سنن الله في الأنفس والآفاق وإذا بالظن يخيب والفال يكذب إذ ترى تلك القوى مصروفة إلى جهة غير التي تريد، وترى الرجل وقد غُلِب على ذكائه، وجرفته العادة التي تملكته إلى الآراء والعقليات وإثارة الشبهات. وترى ذلك الذهن العاتي يتخبط في مضائق هي دون قدر القرآن ودون قيمة ذلك الذهن حتى ليسف فيزعم لك ـ مثلاً ـ أن أولي العلم في قوله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملئكة وأولو العلم قائماً بالقسط} هم أهل الأصول...
ونحن نعتقد أن الرجل وأمثاله من الأذكياء ما أتوا إلا من غرامهم بهذه المباحث الكلامية واستهتارهم[1] فيها. ويميناًَ لو أن تلك الجهود التي تفرقت على الكلام تألفت على جهة عقلية أخرى لفتحت في العم فتحاً أغر زاهراً ولتعجلت به الفخر بالإسلام وأهله.
أما المذاهب الصوفية فهي أبعد أثراً في تشويه حقائق الدين وأشد منافاة لروحه وأقوى تأثيراً في تفريق كلمة المسلمين لأنها ترجع في أصلها إلى نزعة غامضة مبهمة تسترت في أول أمرها بالانقطاع للعبادة والتجرد من الأسباب والعزوف عن اللذات الجسدية والتظاهر بالخصوصية. وكانت تأخذ منتحليها بشيء من مظاهر المسيحية وهو التسليم المطلق وشيء من مظاهر البرهمية وهو تعذيب الجسد وإرهاقه توصلاً إلى كمال الروح زعموا. وأين هذا كله من روح الإسلام وهدي الإسلام ؟ ولم يتبين الناس خيرها من شرها لما كان يسودها من التكتم والاحتراس حتى جرت على ألسنة بعض منتحليها كلمات كانت ترجمة لبعض ما تحمل من أوزار ؛ فراب أئمة الدين أمرها، وانفتحت أعين حراس الشريعة فوقفوا لها بالمرصاد، فلاذ منتحلوها بفروق مبتدعة يريدون أن يثبتوا بها خصوصيتهم؛ كالظاهر والباطن والحقيقة والشريعة إلى ألفاظ أخرى من هذا القبيل لا تخرج في فحواها عن جعل الدين الواحد دينين.
وما كاد السيف الذي سل على الحلاج وصرعى مخرقته يُغمَد ويوقن القوم أنهم أصبحوا بمنجاة من فتكاته حتى أجمعوا أمرهم وأبدوا للناس بعض مكنونات أسرارهم ملفوفة في أغشية جميلة من الألفاظ، ومحفوفة بظواهر مقبولة من الأعمال.
وحاولوا أن يصلوا نحلتهم تلك، بعُجرها وبُجَرها، بصاحب الشريعة أو بأحد أصحابه فلم يفلحوا وافتضحت حيلتهم وانقطع الحبل من أيديهم فرجعوا إلى ادعاء الكشف وخرق الحجب والاطلاع على ما وراء الحس إلى آخر تلك (القائمة) التي لا زلت تسمعها حتى من أفواه العامة وتجدها في معتقداتهم.
ثم أَمِرَ أمْرُ هذه الصوفية وتقوّت على الزمن والتقت مع الباطنية وغيرها من الجمعيات التي تبني أمرها على التستر على طبيعة دسّاسة وعرق نزّاع ومزاج متحدّ، واختلطت تعاليم هذه بتعاليم تلك وتشابهت الاصطلاحات وابتلي المسلمون من هذه النحل بالداء العضال..
وقد اتسع صدرها بعد أن تعددت مذاهبها، واختلفت مشاربها في القرون الوسطى والأخيرة من تاريخ الإسلام فانضوى تحت لوائها كل ذي دخيلة سيئة وعقيدة رديئة حتى أصبح التصوف حيلة كل محتال، وحيلة كل دجال. وإن هذه الطرق المنتشرة بين المسلمين والتي تربو على المذاهب الفقهية عداً،كلها ـ على ما بينها من تباين الأوضاع واختلاف الطباع وتنافر الأتباع ـ تنتسبُ إلى هذا التصوف، ولكنه انتساب صوري اسمي، وشتان ما بين الفرع وأصله.
فمبنى التصوف في أغلب مظاهره- كما أسلفنا- على الانقطاع والزهد في الدنيا والتجرد والتقشف ورياضة النفس على المشاق وفطمها عن الشهوات، ومبنى هذه الطرق في ظاهر أمرها وباطنه على حيوانية شرهة لا تقف عند حد في التمتع بالشهوات والانهماك في اللذائذ واحتجان الأموال من طريق الحرام والحلال واصطياد الجاه وحب الظهور والاختلاط بأهل الجاه وإيثارهم والتزلف إليهم.


[1] ـ استهتر بالشيء : أولع به واهتم به.


[ يتبع... ]

رد مع اقتباس